إيران ومنظماتها بالوكالة في سوريا
حصدت رعاية طهران للمجموعات المسلحة أرباح مهمة في السنوات الأخيرة. اندمجت ميليشياتها الشيعية بالوكالة في العراق بشكلٍ كامل في النظام السياسي وشكّلت جهة موازية للجيش العراقي الأضعف منها بكثير. حين احتدم الصراع السوري، وسّعت هذه الميليشيات عملياتها عبر الحدود وأنشأت مجموعات تابعة لها في سوريا لتحارب إلى جانب نظام بشار الأسد.
إلى جانب حزب الله في لبنان (الذي ترك بصمته بعد أن استولى على القصير في العام 2013)، أدّت الميليشيات الشيعية في العراق دوراً حاسماً في تغيير ميزان القوى لصالح نظام الأسد. لتكون الأمور الواضحة، يُعتبر ذلك شبكة واسعة من القادة والمحاربين والموارد والأسلحة التي تمتد إلى أفغانستان. ولا يتعين على إيران أن توجّه كل واحدة من تلك المجموعات – إنما تعتمد بدلاً من ذلك على ميليشيات رئيسية، كمنظّمة بدر في العراق أو حزب الله في لبنان لإدارة بعض المجموعات التابعة لها.
تنظّم طهران هذه المجموعات وتموّلها، إلا أنّ هذه المجموعات تتمتع باستقلالية كافية تسمح لها بالاستحواذ على موارد محلية وقواعد دعم خاصة بها. وتقوم الاستراتيجية في أحد أجزائها على الاستيلاء عسكرياً على الأرض والسيطرة عليها؛ في حين تتضمن أجزاء أخرى تحويل المجموعات المسلحة إلى جهات فاعلة اجتماعية – ثقافية، لا سيما حيث تكون سيطرة الدولة ضعيفة. تحافظ هذه المجموعات على وجودها وتمنحه الشرعية من خلال تهديد المجتمعات المحلية (والخوف الذي تسببه)، معتمدةً في أغلب الأحيان على الروايات الطائفية عن الضحية.
يساعد البعد الديني والثقافي لاستراتيجية إيران تحوّل ميليشياتها بالوكالة من مجموعة مسلّحة إلى حركة اجتماعية – ثقافية ثم (على نحوٍ مثالي، من وجهة نظرٍ إيرانية) إلى عنصر متكامل من النظام السياسي (من خلال دمح الميليشيات سواء في الجيش أو الشرطة أو كقوات تابعة موازية للجيش).
إن حجم الدعم المحلي الذي تحصل عليه ميليشيات إيران بالوكالة في سوريا غير واضح تماماً. إلا أنّ بعض التقارير المقلقة تشير إلى أنّ نظام الأسد وإيران لا يزالان يتحكمان بالخريطة الديمغرافية للبلاد – من خلال التهجير القسري – الأمر الذي قد يزيد المشكلة سوءاً. علاوة على ذلك، حيث تغيب الدولة، لا تجد المجتمعات المحلية أمامها خياراً غير قبول المجموعات المسلحة ودعمها، فهي من وجهة نظرهم تؤمّن لهم الأمن والخدمات في ظلّ غياب البدائل الحيوية.
ما العمل؟
لم تخسر الولايات المتحدة بعد كلّ شيء.
لا بد بدايةً من تحديد ما تريده إيران في سوريا. سأفترض أنّ الجواب هو شيء بين لبنان والعراق: دولة ضعيفة كفاية لتتمكن إيران من رسم هوية الدولة، إلا أنّ ضعفها لا يصل إلى درجة التفكك. وفقاً لهذا المنطق، قد تريد إيران جيشاً وطنياً ضعيفاً، ومؤسسات تقوم على أساس طائفي، وسياسة وقيم متباينة. من شأن هذه العوامل جميعها أن تقلّص معاً من احتمالات نشأة هوية وطنية قادرة على جمع المجتمعات السورية كافةً وتولّد بالتالي دولة قوية مستقرة قد تضرّ بمصالح إيران على المدى الطويل.
إنّ ما يرسم مستقبل السياسة الخارجية هو خبرة إيران مع التطويق في المنطقة (كونها محاطة بدول عربية معادية تمتلك جيوشاً قوية، وموارد عظيمة، وحلفاء غربيين من شأنهم أن يهددوا النظام أو أن يجبروه على الخضوع)، مما يعيد إلى الأذهان أنّ عناصر الحرس الثوري الإسلامي الذي يقود انخراط إيران في سوريا والعراق يتألف من محاربين قدامى شاركوا في حربٍ دامت لثماني سنوات مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي.
يتعيّن على صناع السياسة الأمريكيين تقدير هذه الديناميكيات. وفي ظل غياب تدخّل عسكري كامل في سوريا، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تركّز أساساً على الاحتواء. شكّلت الغارات الجوية الشهر الماضي، وكذلك غارات يوم الخميس، خطوة تمهيدية في ذلك الاتجاه. يبعث الوجود الأمريكي القوي في الشرق الأوسط الطمأنينة لدى أصدقاء أمريكا وحلفائها ويقلق أعداءها.
إلا أن مواجهة إيران بشكلٍ حقيقي تتطلب مقاربة طويلة الأمد إزاء مشكلة معقّدة ودائمة التطور، وليس تدابير مجزّأة. على نحوٍ مثالي، قد تصل الولايات المتحدة إلى مستوى يعادل تفاني إيران والموارد التي استثمرتها في سوريا. أما في الحقيقة، فيبدو أنّ إدارة ترامب، على غرار الإدارة السابقة، تبحث عن مقاربة أكثر قابلية للتحقيق.
لقد أشار البعض إلى أنّ الحل قد يتجسد في اتفاق مع روسيا لكبح إيران وميليشياتها بالوكالة، إلا أنّ الرباط حول يدي موسكو محكمٌ – إذ كما أظهر تعطيل إيران لعملية الإجلاء من حلب، حدّت روسيا من تأثيرها على أعمال إيران في سوريا. ومع تحقيق نظام الأسد وميليشيات إيران بالوكالة مكاسب إضافية، من المحتمل أن تبتعد أكثر عن دائرة النفوذ الروسي. ويقدّم هذا الأمر فرصةً لواشنطن للتنسيق مع موسكو بينما تحاول احتواء نفوذ إيران في سوريا.
تقدّم المناطق الآمنة أيضاً مقاربة أكثر واقعية للحد من النفوذ الإيراني. ومن شأن ذلك أن يؤسس لموطئ قدمٍ مهم في سوريا وقد يتضمن الاعتماد على التعاون العسكري بين واشنطن وأكراد سوريا لمنع ضم كردستان سوريا (روج آفا) إلى نظام الأسد أو إيران أو إخضاعها لأي منهما. ويتطلب ذلك أيضاً تشجيع وحدة حماية الشعب لتصبح عاملاً أكثر شمولية ولتهدئة المخاوف التركية إزاء جرأة الروج آفا وقدرتها على تقويض أمنها القومي. سيكون على الولايات المتحدة أن تخصص موارد كبيرة من أجل المناطق الآمنة في سوريا (المناطق الآمنة المتعددة، في حال كانت الروج آفا من ضمنها، ستكون أكثر تعقيداً وخطورةً من المنطقة الآمنة التي أقيمت شمال العراق في تسعينيات القرن الماضي) وأن تتفهم الأخطاء الماضية.
من المرجّح أن يكون مستقبل سوريا نموذجاً كونفدرالياً يقسم السلطة بين عدة مناطق. وبناءً على ذلك، وضعت إيران استراتيجيتها في سوريا تحضيرها لهذا النموذج، ولتسمح لها بالسيطرة على بنى حاكمة ممثالة. يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً لتتفادى ذلك – في حال حاولت إيران أن تدمج مجموعاتها بالوكالة في الدولة السورية أو هدفت إلى جعل وجودها دستورياً وشرعياً أو حين تحاول ذلك على سبيل المثال. أما في حال ربطت الميليشيات الإيرانية بالوكالة في سوريا نفسها بالأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الاجتماعية الثقافية، فقد تنهب الاقتصاد لا سيما وأن الموارد الدولية ستملؤه. كما أظهرت الأحداث في العراق وأفغانستان ولبنان، يمكن أن تتحول الميليشيات إلى جهات فاعلة اقتصادية مهمة. بالإضافة إلى استخدام قدرتها العسكرية كقوةٍ ضد ميليشيات إيران بالوكالة، يتعين على الولايات المتحدة أن تركز بشدة على اقتصاد الحرب الذي يعزّز الصراع في سوريا، والدعم الدولي المحتمل الذي نأمل أن يعزز نوعاً من التسوية السلمية. وسيتطلب ذلك إيذاء ميليشيات إيران بالوكالة مالياً لإضعاف قدرتها على المحافظة على سيطرتها وعلى مشاركتها في الحكم، وكذلك للمساعدة على توفير بدائل حيوية لسبل المعيشة للمجتمعات المحلية.
باختصار، يحقق الوجود الأمريكي في سوريا التوازن بين القوى. إن وجود أمريكي أكبر يعني قدرة أكبر على تأدية دور أكثر فاعلية – وهو أمر يسبب المشاكل للإيرانيين أكثر مما يوجد لهم الحلول.